تابع رسالة بيروت في 18 فبراير/شباط
تبيّن بـما لا يقبل الشك أنّ الـخطة التي وضعت «للقضاء على الـحزب السوري القومي» كانت كما قال فيها الـمرجع الـحزبي العالي، حقيرة، سخيفة. كانت حقيرة، لأنها أظهرت صغارة القائمين بها وجبنهم عن مجابهة الـحزب السوري القومي في الـميدان السياسي. وكانت سخيفة لأنها دلت على سوء فهم الاختبارات الـماضية وعدم تقدير قوة الـحزب الـحقيقية تقديراً يقرب من الصحيح. ولكن الـمتآمرين على النهضة القومية الذين وضعوا هذه الـخطة ظنوا أنها «قاضية» فسيقع الزعيم في شراكهم من غير أن يعلم الناس شيئاً من أسرار الـمؤامرة والأسباب الـحقيقية التي تدعو إلى اعتقاله. وسيعتقد الشعب، بناءً على الأكاذيب التي تنشرها الصحف، أنّ سجن الزعيم كان «لأسباب عدلية» أي لوجود دعاوى عليه من أفراد وأنّ قضيته قضية إجرام عادل لا قضية سياسية. هكذا توهموا وفرحوا فرحاً عظيماً بـما توهموه. وبينما هم يستعدون صباح الإثنين الواقع في الثالث عشر من يونيو/حزيران الـماضي لتلقّي الأنباء بالقبض على الزعيم ونشر الصحف أخبار هذا القبض، إذا برجال التحري يعودون إلى دار القضاء «يد لـخلف ويد لقدام»! فتبدل فرحهم وجوماً وظهرت خطتهم الباهرة بأحقر مظاهر السخافة. وكانت النتيجة الأولى لهذه الصدمة الـحملات الـجنونية التي قام بها رئيس مكتب التحريات وأشرت إليها فوق.
شعرت الـحكومة اللبنانية أنها تـجاه فشل عظيم وأنّ الـحملات التي قام بها رئيس مكتب التحريات لم تكن سوى تشفٍّ ظهرت حقارته بأوضح مظاهرها، فعمدت إلى خطة جديدة هي اتخاذ كل عمل يقوم به أفراد من الـحزب السوري القومي حجة لإلقاء القبض على عدد من كبار موظفيه وأركانه وتـحميلهم تبعته. ولكي يكون هذا العمل الشائن مبروراً بصورة قانونية أصدرت الـحكومة تعميماً بتاريخ السادس والعشرين من يوليو/تموز الـماضي هذه أهم محتوياته:
«إنّ تعدد الاجتماعات العامة وتكرار التجمعات غير الـمباحة ونشاط الـجمعيات الـممنوعة أو الـمحلولة، كل ذلك حمل الـحكومة على إنشاء مصلحة خاصة تقوم بحصر جميع التعليمات وعناصر التحريات التي يـمكن معها تأمين القمع على وجه متتابع وعلم بالوقائع. تلك هي الغاية من إصدار القرار رقم 630 الذي بـموجبه أنشىء مكتب التحريات في نيابة بيروت البدائية، الخ...
«على أنّ هذه الـمصلحة الـجديدة لا يـمكنها أن تعمل عملاً فعّالاً وافياً بالـمرام إلا بقدر ما تتلقاه من الـمعلومات الصحيحة السريعة. ولبلوغ هذه الغاية يجب أن ترسل في أقصر مدة إلى الـمكتب الـمذكور صور عن جميع محاضر الضبط الـمختصة بالشؤون الـمتقدم ذكرها، من غير أن تـمرّ بدرجات تسلسل الرتب. ويجب من جهة أخرى أن تكون هذه الـمحاضر واضحة مفصلة تسهيلاً لسبيل التحقيق القضائي وتطبيق العقوبات الـمنصوص عليها في القانون.
«ولكن إرسال الـمحاضر لا يكفي إذا كانت السلطات الإدارية لا تبحث بهمة ونشاط جميع الـمعلومات الـمفيدة العائدة إلى التصرفات التي يراد بها إحداث خلل في النظام وإثارة أفكار الـجمهور، وإذا كانت أيضاً لا ترسل تلك الـمعلومات في وقت واحد إلى الـمكتب الـمشار إليه وإلى رؤسائها بالتسلسل.
«على أنّ الاحتياط والقمع لا يكونان فعالين إلا بقدر ما يتناولان الـمدبّرين والـمحرضين قبل الـمتظاهرين الـخاملي الذكر أو القائمين بدور لا شأن له. فلذلك يجب أن يعلن في الـمعلومات الأشخاص الذين يرأسون حركة الشعب أو الـجمعيات غير الـمباحة وأن تذكر عند الاقتضاء فروع هذه الـجمعيات وعلاقاتها وطريقة عملها وما لديها من وسائل الدعوة وأن يصرف الـجهد إلى الاستعلام مقدماً عن مشاريعها وإلى عرقلة أعمالها بـمهارة وبراعة وأن تقترح عند الاقتضاء التدابير التي من شأنها أن تؤدي إلى فشل الأعمال الـجرمية. وعلى الـجملة فإن السلطات التي يهمّها حفظ النظام والأمن العام يلزمها أن تظهر أكبر نشاط لكي تـحصل على الـمعلومات الصحيح وتـمنع تدريجـاً الأفعال والـمحاولات التي من شأنها تكدير صفـو الأمن العام.
«إنّ هذا التعميم لا يغيّر شيئاً من الأوامر الـمختصة بعلاقات دوائر الـحكومة من جهة وإدارة الأمن العام (التي عينت مهمتها في القرار عدد 269 الصادر من الـمفوض السامي في 20 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1935) من جهة أخرى.»
ولا يحتاج الـمطّلع لأكثر من نظرة سريعة لتتضح له الأمور التالية:
1 - إنّ لغة هذا التعميم السقيمة تدل على أنّ الأصل صادر عن مرجع أجنبي وأنّ هذا النص ليس سوى ترجمة.
2 - تكليف الأسلاك الإدارية ومن ضمنها سلك الـجندرمة مساعدة مكتب الـجاسوسية للوصول إلى معلومات تـحتاج إليها السلطة في صدد الـحزب السوري القومي. وتكليف هذا السلك الأخير القيام بتحريات من عنده يكافأ القائمون بها مكافآت كبيرة بالـمعاش والرتب والأوسمة وتـحويل الـجنود إلى جواسيس.
3 - تـحويل جميع الـمعاملات الإدارية الـمتعلقة «بالتجمعات غير الـمباحة ونشاط الـجمعيات الـمحلولة أو الـممنوعة» إلى مكتب التحريات ليتدخل في جميع الأمور التي هي من حق الإدارة في سبيل تـحقيق «الـمرام».
4 - لا يقصد من «نشاط الـجمعيات الـممنوعة أو الـمحلولة» غير الـحزب السوري القومي بدليل تكرار اجتماعات الأفراد الذين يشكلون الـجمعيات الـمذهبية اللبنانية الـممنوعة علناً في منتديات بيروت العمومية ونشر الـجرائد، وخصوصاً الـموالية منها للحكومة كـ البشير وغيرها، أخبار هذه الاجتماعات و«الـخطب» التي تلقى فيها.
5 - يدل هذا التعميم على استفحال شأن الـحزب السوري القومي ومبلغ قلق الدوائر الـحكومية والـمرجعية من نشاط حركته.
وقد ذكّرنا صدور هذا التعميم بالقرار الـمشار إليه في ذيله، الذي صدر من الـمفوض الفرنسي في العشرين من نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1935، أي بعد اكتشاف أمر الـحزب السوري القومي وإلقاء القبض على زعيمه بأربعة أيام وكل القرارات والقوانين التي سبّبها ظهور هذا الـحزب الـمتين النظام، وهي قوانين تضع في يد الـمفوض الفرنسي سلطة واسعة على القوات البرية والبحرية والـجوية ليستخدمها في «قمع» كل حركة تظهر في البلاد. والناس كلهم هنا يعلمون أنه لا خطر يوجب اتخاذ مثل هذه التدابير الاحتياطية غير خطر ظهور الـحركة السورية القومية الـمنظمة تنظيماً يضاهي، بل يفوق تنظيمات أجنبية كثيرة.